على كرسيٍ قديم جلست، و أنحت رأسها للخلف، فأبصرت السقف، ثم أغمضت عينيها.. فقط حين تغلق عينيها، تستطيع أن ترى صندوق الذكريات، الذي خبأت فيه كل شقاوتها، مغامراتها، حكاياتها، أبطالها، و أحلام الطفولة، حين تغمض عينيها تستطيع أن ترى تلك الطفلة الجذلى تجري و تقفز، بعد أن نكزت أخاها، فشرع يلاحقها، يتوعدها بأن يضربها، و رغم الوعيد هي مسرورة بل في غاية السرور و الاستمتاع، فإغاظة أخيها هي متعتها التي تجدها و تجيدها.
رأت شعرها الأجعد، و أمها تمشطه لها، فتشد شعرها، و تصرخ متألمة تكاد تبكي، فتلومها و تؤنبها لانشغالها باللهو عن الاهتمام بنفسها، فتبكي الطفلة، و تتمنى الخلاص بأي طريقة من يدي أمها، ثم ترى أخاها، و تحسده، فتتمنى لو كانت صبيًا فلا تحتاج لإطالته و تمشيطه، و يرى هو دموعها فيضحك عليها و يلوح لها بإشارات الاستهزاء، و تهمّ أن تذهب لضربه، و لكن أمها تمسك بها من شعرها، فتستسلم، و تجف دموعها من حرارة غيظها على أخيها، و تتوعده في سرها، بأن تضيف الفلفل وبعض البهارات في غفلةٍ منه إلى قارورة عصيره المفضل!
رأت الطفلة فور عودتها من المدرسة، تفتح حقيبتها بسرعة، تخرج كراساتها، و تحل فروضها كيفما كان، ثم تعيد كراساتها إلى الحقيبة و تلقي بها في الخزانة، و تجري إلى التلفاز، حتى تشاهد أبطالها في ذلك الصندوق، و هم يقاتلون الشر، و ترى أحد الأشرار يحاول أن يضرب بطلها غدرًا دون علمه، فتصرخ: انتبه! حاذر! انظر خلفك إنه يريد ضربك! و فيما هي تصرخ، ينتبه البطل إلى ذلك الشرير، فيسلم منه، فتزفر مرتاحة أنه نجى! ثم يأتي أخوها مستغربًا، و يسألها علامَ تصرخ؟! تخبره بالأمر و بأن البطل سمع تحذيرها، و بسببها هي نجا، فيضحك أخوها ملء فيه عليها و يسخر منها! و لكنها لا تأبه له، فهي قد كوّنت علاقةً بينها و بين كل أبطالها، و هي تثق بهم كما تظن أنهم يثقون بها، و تبتسم ابتسامة واثقة، و ساذجة!
تذكرت تلك الطفلة التي نالت بتفوقها على هدية، و هي مسجلٌ صغير، كانت مسرورةً به أيّما سرور، و لكنها تذكرت صديقتها فذبلت ابتسامتها، و ارتسمت على ملامحها أمارات الحزن، صديقتها العزيزة سوف تسافر دون أن تعود، فماذا تفعل؟! و أي هدية للذكرى تعطيها؟ و فيما هي تفكر و قد رأت المسجل في يدها، قررت أن تتخلى عنه لصديقتها، فهي لا تملك مالًا لتشتري لها شيئًا آخر، ليس لها إلّا أن تعطيها المسجل!
و ما زالت تذكر حين كانت هي و أخاها و خالتها يلعبون لعبة " ماريو " في ذلك الجهاز المسمى بالـ "أتاري" لقد كانوا يتداولون اللعبة، و لكلٍ منهم دور، و كانت هي تحاول أن تحتال، إلا أن خططها تفشل، فكل منهم حريص على دوره، تذكرت حين حصلت مشكلة بسبب هذه اللعبة، فما كان من أمها إلا أن نزعت أسلاكها، و لملمت الأجهزة، و رمتهم فوق الخزانة!
.
.
و هي في خضمّ الذكريات، أنهت غورها في ذلك الصندوق، بابتسامة شقت دمعةٌ طريقها نحوها، فأفاقت من سكرتها، و مسحت الدمعة، و تساءلت: لو أن الصندوق كان حقيقيًا، وتستطيع في أي لحظةٍ تريد أن تفتحه ثم تلِج إلى ماضيها الجميل، أكانت لتفعل؟
فكّرت.. فكّرت.. و علمت و استيقنت، أنها ما كانت لتجرؤ على فتحه! و إن كانت أحلى الأيام و أجمل الأوقات و أسعدها، و أحبّها إلى قلبها ستعود إليها بمجرد فتح هذا الصندوق، هي لن تفتحه! و لن تجسر على ذلك..إطلاقًا!
جمال تلك الأيام يكمن في كونها ذكريات! نحملها في صندوقٍ بحرصٍ شديد، مثل كنزٍ نخشى أن يضيع منّا فنضيع بدونه! و مهما كان الماضي يناديها و يلحّ عليها بالعودة، هي لن تفتحه! ستبقي ذلك الصندوق مخبأً في مكانٍ أمين، بعيدٍ عن الأعين، و عن عينها هي قبل الجميع، و ستكتفي بمجرد أن تذكره.. و تذكر ما فيه.. سترمي مفتاح قفله في بحرٍ عميق، أو في وادٍ سحيق، و لن تندم!
مثل شيءٍ مقدّسٍ لا يُمس، فقط نشعر به و نظن أننا نتلمسه، و نشعر به يحيطنا، و رغم أننا نشعر بأننا نراه، إلّا أننا لا نراه ! هو هكذا أجمل! هو هكذا أفضل! ليبقى كما هو.. ذكريات جميلة.. و يُمنع الاقتراب من صندوقها !
إن كان في أيديكم و بمقدوركم فتح صندوق ذكرياتكم، أكنتم تفعلون..؟!
سؤال: أعجبتكم الرسمة ؟![]()
المفضلات