بينما كان التاريخ يوماً يمتطي الريح كعادته لتحمله هنا وهناك
لفتت أنظاره أطلال شامخة في الخلاء
فحط رحاله عندها
عصفت الريح فتبعثرت الرمال حول ما تبقى من أطلال مدينة خربة وخالية
لا يسكنها الا بعض الحيوانات البرية والطيورالجارحة .
وقفت بقايا المباني المهدمة صامدة أمام الهواء العاصف لئلا تنهار كلية
وكأنها في صراعٍ للبقاء حتى آخر طوبة فيها.
كانت في يوم ما مدينة جميلة تعج بالسكان،
كانت زاخرة بالمباني والمدارس والمتاجر .
تجملها الحدائق العامة بزهورها وأشجارها وعشبها.
كانت مقصداً للقاصي والداني... لطالب العلم والرزق والسياحة.
كانت .. وكانت... وكانت...
كله كان في الماضي
أما الآن فهي مدينة أشباح...
خربة وخالية يترحم على عظمتها المهدورة
كل من عشقها وعاش فيها يوماَ.
هي الآن أطلالٌ وحطام يواريه التراب وتفتت الرياح بقاياه.
هي الآن ... لا شئ بعد أن كانت كل شئ.
أخرج التاريخ قلمه ليدون قصة هذه المدينة الحزينة
لكنه لم يجد من يحكي له قصتها
لم يسمع فيها غيرعواء الذئاب والكلاب الضالة وأصوات الطيور الجارحة.
في طرقاتها وشوارعها بقع دماء وألعاب مكسورة وأسلحة وشظايا.
هياكل عظمية تنتشر هنا وهناك لمن لم يسعف الوقت أقاربه ليدفنوه...
لعلهم هربوا هم أيضاً لئلا يلقوا نفس مصيره.
وقف التاريخ حزيناً على ما أصاب المدينة ...
حائراً ماذا يكتب عنها.
ماذا يحكي ويقول للأجيال القادمة؟
أمن الأفضل إذاً أن يتركه لغزاً؟
وبينما التاريخ يلملم أوراقه ظهرت من بين الأطلال
إمرأة تتشح بالسواد كأنها شبح.
كانت ذات ملامح جميلة.. دافئة.. جذابة رغم الحزن والألم في عينيها...
تحت تلك النظرة الحزينة التائهة
رسمت آثار الدموع نهراً على خديها ..
دموعاً ما تكاد أن تجف حتى يتدفق غيرها
كنهر لا يتوقف عن الجريان
سألها التاريخ مبتسماً وكأنه بابتسامته يحاول أن يخفف ألمها
"هل أقدر أن أساعدكِ؟"
نظرت إليه دون إكتراث شاخصة في اللاشئ
ومسحت دموعها قائلة بعصرة ألم
"لا... لا أحد يستطيع"
سألها باهتمام "لماذا؟"
أجابته بتحدٍ: "أتقدر أن تعيدني كما كنت؟ أتقدر أن تعيد أبنائي إلى الحياة؟"
أحنى رأسه مكسوراً بعجزه
وقال بصوت منخفض "للأسف لا أستطيع"
ثم أردف "لكن بالتأكيد أقدر أن أساعدكِ بشكل آخر".
ابتسمت ابتسامة ساخرة ثم قهقهت بضحك هستيري وأجهشت بالبكاء
حتى سقطت على الأرض منتحبة باكية
والرياح تعبث في شعرها المتطاير
وكأنها الحزن يبعثر كيانها كله.
انحنى التاريخ لينهضها فلم تقاومه.
ثم أجلسها على الأرض وأعطاها ماءً لتشرب.
اجترعت الماء كظمآن تاه في صحراء.
ولما هدأت سألها من تكون وما قصتها؟
نظرت إلى الأطلال والخرائب حولها بأسى
ثم أغمضت عينيها وقالت:
"أنا هذه المدينة الخربة الخالية...
أنا الأم الحزينة الثكلى..
أنا الطفولة المشردة ..
أنا اليتيم البائس ..
أنا من قتل أبناؤها بعضهم البعض ودمروني...
ألا تراني؟
ألا ترى حالي وشقائي وسعير النار في داخلي..
ألا ترى ما آل إليه حالي
وقد كنت جوهرة تاج مدن العالم أجمع
ذبحني أبنائي بسكين تلم ..
قطعوا لحمي وفطروا قلبي.
كان شعب واحد يسكنني ..
فيه الأبيض والأشقروالأسمر والأسود
فيه من يتبع ديناً يختلف عن عقيدة جاره
فيه المثقف والبسيط.. فيهم الغني والفقير...
شعب فيه كل المتناقضات والاختلافات
لكنهم كانوا على قلب رجل واحد
يحبون بعضهم ويحبونني..
اختلافاتهم ما كانت تفرق بينهم
بل كانوا يرون فيها تكاملهم...
إلى أن جاء ذلك اليوم الأسود الذي غزا فيه فكر غريب أرضي.
ورويداً رويداً تغلغل في نفوس أبنائي ...
فصاروا يتكبرون على بعضهم.
كل فريق منهم يرى نفسه أفضل من الآخر
واختلافاتهم التي كانت سبب تكاملهم صارت ذريعة خلافاتهم
وبدلاً من أن تجمعهم المحبة فرقهم الكره.
صار التعصب والعنصرية والمذهبية دينهم
بعد أن غشي الضباب عيون قلوبهم
فأعماها عن رؤية الحق.
انتشر البغض بينهم كالسرطان
وسرعان ما تحولت الكلمات الجارحة إلى طلقات نيران
قتلت من هذا الفريق وذاك الكثير...
سال الدم فاسستشرى الغضب كنار في الهشيم محرقاً الكل".
صمتت برهة وكأنها تمنع نفسها من البكاء
ثم أكلمت
"حاول العقلاء من ابنائي الصراخ
واعادة الرشد إلى من فقدوه من إخوتهم لكن هيهات ...
فكيف لمن لغى عقله أن ينصت لصوت الحق؟
كيف لمن غلظ قلبه أن يرى دم أخيه يلطخ يديه؟
كيف لمن صار وحشاً كاسراً أن يرجع إنساناً عاقلاً؟
ومع أصوات البارود والمدافع ووابل القنابل
إزدادت صيحات الموت والألم والغضب...
وتلاشت أصوات العقل والمحبة
لأن أصحابها قتلوا أو هُجروا"
بعيون دامعة أكملت ساخرة
"أتعلم ما هي الفاجعة الكبرى؟!"
"ماذا؟"
"ابنائي الذين رفعوا أسلحتهم على بعضهم
ادعوا إنهم يفعلون ذلك حباً فيّ ليخلصونني من الخونة"
قهقهت بضحكة هستيرية مجنونة وقالت
أرايت ما جنيته من حبهم لي؟!
كل هذا الخراب والدمار والفناء لأنهم يحبونني
أن كان هذا حصاد حبهم فماذا كان سيكون حالي لوكانوا يكرهونني؟!!
آآآآآآآآآآآآه.... يا وجع قلبي وحسرتي!
قتلني حبهم.... دمروني بحجته!
الغريب ما كان سيفعل فيّ ما فعلوه!
آآآآآآآآآآه
واستمرت في النواح والعويل والهذيان
والتاريخ يرقبها بعيون حزينة متأملة
وأخيراً ربت على كتفها مهدئاً وقال مطمئناً
" يوماً ما ستنهضين ثانية وأبناؤك الذين فروا هذه الحرب
سيرجعون ويزرعون أرضك ويبنونك من جديد
وستعودين كما كنتِ بل أفضل"
نظرت إليه بذهول كأنه مجنون يهذي غير مصدقة
"أنت مجنون واهم!!!
هل ترى فيّ ما يجعل أي شخص يرجع إليّ؟
لقد دمروني وخربوني ونهبوا خيراتي.... لم أعد أملك شيئاً أعطيه..
من ذا الذي سيود الرجوع إلى خرابة مثلي؟"
أجاب بثقة
"أبناؤكِ الذين أحبوك حقاً وليس زيفاً
أولئك الذين يعشقون ترابك ويرونه تبراً غالياً
أولئك الذين لم يخطف الكره والبغض قلوبهم
ولم تحجر العصبية والعرقية والتطرف على عقولهم
أولئك الذين تعيشين بداخلهم حتى لو لم يكونوا على أرضك
أولئك الذين يعرفون ما هو الوطن"
سألت باستغراب حزين
"ألي أبناء هكذا؟"
أجابها مبتسماً
"ألا تعرفين أولادك؟ ألم تربيهم على حبك؟
ألم ترضعيهم من نهرك؟ ألم تطعميهم من زرعك؟
ألم تلبسيهم من خيرك؟ ألم تعلميهم الحق والمحبة والتعاون؟
من أحبوكِ بحق ويريدون خيرك سيعودون.."
ثم أشار إلى المدى البعيد وقال
"انظري هناك ... ها هم يتوافدون الآن...
ظلالٌ تقترب رويداً رويداً..
بعد وقت قصير سيكونوا هنا.
امسحي دموعك واستقبليهم"
نظرت في اتجاه اشارته
وبرقت عيناها بومضة فرح
ابتسمت غير مصدقة وباضطراب البهجة قالت متهللة
"يا إلهي!! إنهم هم فعلاً ... أبنائي عائدون إليّ
أنهم راجعون إلى حضني... أتيون ليزيلوا عاري ويبنوني من جديد"
ثم استدارت ناحية الشيخ وسألته "كيف عرفت أنهم سيعودون؟"
"إيه... لو عرفتي كم من السنون عمري لما احترتي.
عمري من عمر الزمن الذي لا يعرف بدايته البشر ولم يحسبوه في تقوايمهم
أنا شاهد صامت أدون الأحداث والقصص والحكايا
الحزين منها والمفرح أي كانَ
تتغير العصور والانسان هو الانسان
أفعاله في الماضي تتكرر في المستقبل ..
لا يتعظ منها الا القلة الحكيمة
لكنه في دائرة الزمن يدور ولا جديد تحت الشمس
الأحداث تعيد نفسها بمسميات مختلفة في أماكن متفرقة
لكن الفعل واحد والدافع واحد
ومن لم يقرأ ما دونته في صفحاتي
تنقصه رؤية صحيحة لبناء المستقبل.
أنا التاريخ والتاريخ قصص الانسانية على مدى العصور
أدونها لعل وعسى من يأتي ليقرأ ويفهم ويدركه النور
افرحي بحاضرك الآتي ولا تحزني من ماضيكِ
بل استفيدي منه لبناء مستقبلك...
الماضي دروس لمن يعتبر ..
طوب لبناء صرح الحضارة"
ثم ابتسم واغلق كتابه وذهب مع الريح
من بعيد يرقب لحظات اللقاء المرتقب
حين يطأ العائدون تراب هذه المدينة الحزينة
ينتظر بصبر حصاد حبهم الحقيقي لها
مرتجياً سماع أصوات الضحك والفرح والغناء
أصوات الصناعة والتعميروالبناء
أصوات الفلاحة والري في الخلاء
أصوات جلجلة العلم والفكر في العلاء
أصوات المحبة والسلام والهناء
في ظل عدالة تحكم وأمن يسود في الأرجاء
ينتظر التاريخ
وننتظر معه بداية جديدة
المفضلات